الإسراء والمعراج (لمحات ووقفات) | الشيخ طارق المحمد
تعريف الإسراء والمعراج :
أولاً : تعريف الإسراء: الإسراء هو المسير بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام وهو مقرّ شريعة إبراهيم عليه السلام إلى المسجد الأقصى المبارك وهو مقرّ شرائع بني إسرائيل ووحيهم، وهي رحلة أرضية، ووسيلة الإسراء كانت البراق وهو دابة خاصة أرسلها الله مع سيدنا جبريل للقيام بهذه المهمة.
ثانياً: وأما تعريف المعراج: فهو العروج بالحبيب صلى الله عليه وسلم من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى إلى سدرة المنتهى، ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، ثم إلى مقام رأى فيه ربه بلا كيف ولا تمثيل، والمعراج رحلة سماوية علوية، إلى عوالم غيبية، وهو وسيلة خاصةٌ أُتي بها النبي صلى الله عليه وسلم للرقي إلى السماء.
وهذا معراج وإسراء على كمال الشريعتين (شريعة إبراهيم وشريعة أنبياء بني إسرائيل ) وهي دلالة على ترابط الشرائع السماوية مع بعضها.
رحلة الإسراء والمعراج:
ليست معجزة الاسراء والمعراج من باب التسلية، ولا من باب كشف الأحزان عنه، بل هي أجلّ وأعظم من هذا الهدف، لأن الله عبّر فقال (لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ) أي عجائب قدرتنا، وآياتنا الخاصة، وليست محصورة هذه الآيات بما رآه في بيت المقدس لأن هذه قد رآها غيره صلى الله عليه وسلم، وليست هي الأحجار والوديان والجدران، بل المرئيات والآيات أعظم وأكبر من ذلك ولذلك سمّاه القرآن (ٱلۡكُبۡرَىٰٓ) لأنه صلى الله عليه وسلم رآها بقوة خاصة وسمعها بسمع خاص، وقوله : (لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ) ليس مقصوراً على الرؤيا بل يتضمن أيضاً: ولنسمعه أيضاً من آياتنا، ويدل عليه تمام الآية: (لإِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ).
وهذه الآيات من العوالم الغيبية، كالجنة والنار، وسدرة المنتهى، والبيت المعمور، ولقاء خاصٌ جمعه بالأنبياء، وأصناف الناس ومقاماتهم، وغير ذلك من العوالم الغيبية.
ثبوت الإسراء والمعراج:
كلاهما ثابت في القرآن والسنة: وتواترت حادثة المعراج تواتراً معنوياً في الأحاديث ولا مجال لإنكاره إلا من ذوي الجهل، وأصحاب الأفكار الضالة، ومطْلع سورة الإسراء في القرآن الكريم دلالة قاطعة لكل منكر للإسراء، كما أن مطلع سورة النجم دلالة واضحة لرحلة المعراج، ففي الإسراء قال: قال تعالى
سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ(الآية ١ الإسراء)
قال الله سبحانه وتعالى:
ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ. (البقرة ٢٧٥)
وفي المعراج قال سبحانه:
وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ ١ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ ٢ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤ عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ ٥ ذُو مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ ٦ وَهُوَ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡأَعۡلَىٰ ٧ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ٨ فَكَانَ قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ ٩ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَآ أَوۡحَىٰ ١٠ مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ ١١ أَفَتُمَٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ١٢ وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ ١٣ عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ ١٤ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰٓ ١٥ إِذۡ يَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا يَغۡشَىٰ ١٦ مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ١٧ لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ(النجم: ١ - ١٨)
وأما الأحاديث فهي كثيرة في الصحاح ليس هذا محل سياقها في مقالتنا هذه السريعة، ويمكنك الرجوع إليها بسهولة، ونقتصر على جزء من أحدها في آخر هذا المقال إن شاء الله.
الإسراء والمعراج بالروح والجسد:
اِعلم أن الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد إجماعً عند أهل السنة والجمعة وأهل الاعتقاد الصحيح، ولا عبرة لغير ذلك من الأقوال، وقوله تعالى:( مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) دليل على وجود السافات الحسّية، وهو من شأن الأجساد مع الأرواح، وقوله: (أَسۡرَىٰ) دليلٌ على الجسم والروح أيضاً، وكذلك قوله تعالى: (بِعَبۡدِهِۦ) ولو كان الإسراء والمعراج بالروح فقط لما اعترضت قريش وكفّارها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبرهم، وقد جاءه التأييد الإلهي بالنقل المباشر الحيّ لصورة بيت المقدس كما هي فجعل صلى الله عليه وسلم يصفه لهم فقال: (لَمّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ في الحِجْرِ فَجَلّى اللَّهُ لي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عن آياتِهِ وأنا أنْظُرُ إلَيْهِ.) وفي رواية: (لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس.. ) (أخرجه البخاري (٤٧١٠) واللفظ له، ومسلم (١٧٠))
وهكذا طُويَ الزمان والمكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلا آلة ولا أداة، وإنما بإعجاز إلهي يُظهر فيه عظيم مقام هذا النبي المبعوث رحمة للعالمين.
ما هي ليلة الإسراء والمعراج:
ليلة الإسراء والمعراج هي ليلة مباركة، وهي ليلة التكريم الرباني للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وفيها هدية السماء لأهل الإيمان وفيها لقاء سيد الأنبياء بإخوانه الأنبياء في مسجد الأقصى المبارك والصلاة بهم إماماً، وفيها الرحمة المحمدية بأمته بتخفيه الصلاة من خمسين إلى خمس بالعمل ، وفيها الكرم الإلهي بأن هذه الصلوات...كخمسين صلاة في الأجر ، وفي المعراج أيضاً نفع سيدنا موسى عليه السلام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنصيحة له أن يطلب التخفيف عن أمته، وهذه من رحمة الأنبياء في أقوامهم
كل ذلك بعد أن ضاقت الأرض به وآذاه أهلها، فآن زمان احتفاء السماء بلقاء أكرم الأنبياء على الله والترحيب به هي وأهلها وملائكتها، لتقول له إذا كان أهل الأرض قلوْك وطردوك ، فإن السماء وأهلها ينتظروك. فكانت ليلة الإسراء والمعراج ليلة مؤانسة ومؤازرة، وليلة إكرام ومفاخرة، وليلة لقاء وعطاء، فاق بفضلها وبركاتها وأنوارها وعطاياها كل الأنبياء،
إنها الليلة التي رأى الحبيب حبيبه ورأى العبد ربه بلا كيف ولا تمثيل ،وكلّمه رب العزة جلّ وعلا ،وناجى الحبيب رسوله وأكرمه وقرّبه ، وحبَاهُ وتجلّى عليه، وفي ذلك يقول أحد المحبين يخاطب حبيبنا صلى الله عليه وسلم:
أنت الذي من نورك البدر اكتسى ... والشمس مشرقة بنور بهاكا
أنت الذي لما رفعت إلى السّما ... بك قد سمت وتزينّت لسُراكا
أنت الذي ناداك ربك مرحبا ... ولقد دعاك لقربه وحباكا
(تنسب إلى أبي حنيفة رحمه الله وذكرها الشيخ محمد أمين الكردي في تنوير القلوب ونسبها للإمام فخر الدين الرازي ابن الخطيب ويقال إنها للوزير لسان الدين ابن الخطيب الاندلسي.)
تلك هي الليلة التي عرج فيه النبي صلى لله عليه وسلم فكانت بسببها أوقات العروج اليومي لكل عبد يلتزم بصلاته ويؤديها في وقتها فالصلاة صلة العبد بربه وهي معراج المحبين والمؤمنين إلى رب العالمين ومدَدَ متصل بين الأرض والسماء، ففي الصلاة يعرج الإنسان بروحه، ويطوي فواصل البعد بينه وبين خالقه عزّ وجلّ، ولا يشعر بهذه الرحلة إلا من يكتمل خشوعه في صلاته، وبهذا يتحقق المعنى الحقيقي للصلاة وهي الصلة بين العبد وربه ولذلك قيل الصلاة معراج المؤمن.
ليلة الإسراء والمعراج هي ليلة تجلي الرحمة الإلهية والرحمة النبوية:
رحلة الإسراء والمعراج هي رحلة عطاء من الله، لأن فضله سابق لأمة حبيبه صلى الله عليه وسلم ، ولكن كانت ليلة المعراج سبباً هاماً في إظهار هذه الرحمة وإبرازها للخلق كافة إلى قيام الساعة من خلال الكرم الإلهي الذي لا يَنْقُصْ، والرحمة النبوية الفيّاضة.
وتأمل معي الرحمة الإلهية التي انعكست على الرحمة المحمدية في كيفية فرضية الصلاة والتخفيف منها! ثم انظر إلى تهاون المسلمين بهذه الشعيرة العظيمة وتجاهلهم الرحمتين، نسأل الله العافية. يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم:
ثمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ، قلت: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي ـ وَاللَّهِ ـ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ! قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى، وَأُسَلِّمُ ... فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي (رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى)
وهكذا كانت هدية السماء لأهل الأرض في ليلة الإسراء والمعراج ، بهذه الفريضة التي هي أول ما يُسْأل عنها العبد في قبره وبعد موته، فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله، ولعظمتها وأهميتها لم تُفرض الصلاة إلا في رحلة الإسراء والمعراج حيث فُرضت في السماء، فعلينا الالتزام بها والدعوة إليها والاهتمام بها فإنها وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر آيّامه حين قال :الصّلاة الصّلاة... وما ملكت أيمانكم.. (سنن أبي داوود)
يا ليلة الإسراء نال نبينا...فيِكِ الإمامةُ وهو خير إمامِ
صلى بجمع الأنبياء وقام في ...محراب مسجدهم أجلُّ قيامِ
يا ليلة المعراج حسبكِ رفعةً ...نور يضيء الكشف لكل ظلام
(من شعر العلامة الشيخ محمد أمين كتبي الحسني).
تعليقات